#شخصية_من_ريمة رقم الشخصية ( 42 )
الشاعر محمود حسن الجباري رحمه الله |
أولا : اهمية هذه الشخصية
عندما خططت لمشروع كتاب عن شخصيات من ريمة ، اقتصرت الخطة على تتبع ونشر الشخصيات التأريخية ، التي اشتهرت منذ فجر التاريخ الى ما قبل اربعين عاما، ولا يدخل فيها أي شخصية معاصرة ، باستثناء أربع شخصيات معاصرة فقط ، التي ضمتها الخطة ، وهي: اللواء يحي مصلح ، والبرفسور عبدالملك منصور، والأديب محمود حسن الجباري ، و انشاء الله الرابع الشيخ يحي محسن الجعماني ، وكان كل منهم قد نشط واشتهر منذ اربعين عاما .
وهكذا كان الجباري فقد كان رمزا من الرموز الذين لعبوا أدوارا مهمة في تاريخ اليمن عموما وتاريخ ريمة بشكل خاص وأصبح مصدر فخر لنا ، وقد خلده التاريخ بنضاله وشعره ، ولن نزيده شهرة ، بل نحن من نشتهر به، ونرفع رؤوسنا زهوا به الى عنان السماء.
تعرفت عليه وانا في مرحلة الصبا من خلال الراديو حيث كانت إذاعة صنعاء تكرر اللقاء به وأحيانا كانت تذيع قصائده الوطنية بصوت اسماعيل الكبسي ،قبل انشاء التلفزيون في مطلع السبعينات ، كان منها قصيدة عن ريمة ، فرحت بها وتمنيت الحصول على نسخة منها ، وقد تحققت هذه الأمنية عندما زار كسمة في مهمة رسمية فاستضافه المرحوم عمي حسن ناجي العزي الى منزله ، ونسخنا منه تلك القصيدة ، والتي اصبحت مقررة على طلاب الصف الخامس في مدارس كسمة عندما كنت مديرا لمدارسها في الثمانينات والتسعينات، وكنا نضعها ضمن فقرات بعض الأحتفالات المدرسية في المناسبات الوطنية. ولا زلت احتفظ بها وانقلها معي اينما اقمت . وفي صنعاء تكررت اللقاءات به في وزارة الإدارة المحلية وفي منزل الأستاذ اسماعيل الكبسي الذي كان يجري معه المقابلات للإذاعة ، وفيما بعد أصبح الكبسي وكيلا لمحافظة صنعاء لشؤون ريمة ، وكان يردد مقاطع من قصائدالجباري ومعجبا به ، ومنها البردة ، وفي الجعفرية تجد معظم سكانها يحفظون قصيدته التي وثق بها حرب اليمانية مع بني الجعد حيث حفرها النقاشون على جدار مفرج الشيخ محمود اليمانية في بني العامري .
وفي أحد مهرجانات محافظة صنعاء حينما كان محافظها الشيخ احمد علي المطري التي كانت تقام سنويا بمناسبة عيد الثورة قدم قصيدة من قصائده الوطنية ، فقوطعت بالتصفيق ، كما كتب لنا انشودة تم تلحينها وقدمها طلاب وطالبات ريمة المشاركون في المهرجان ، واتمنى أن اعثر على شريط الفديو المسسجل فيه وقائع المهرجان.
كنت على وشك الإتصال بالدكتور عبد الحفيظ النهاري ، أو الأخ علي محمود يامن للحصول على مادة ترجمته ،والإطلاع على مشروع دوواينه التي جمعت في كتاب واحد اسمه الأعمال الكاملة ، حبيث تبلغ قصائده أكثر من 200 مئتي قصيدة شعرية حسب إفادة الأخ العزيز محمد ابو أشرف الجباري والذي ذكرني بالجباري ووفرعلينا الوقت والجهد فوافاني بعدد من الرسائل الأكترونية تحوي معلومات كافيه ، هي معظم مصادري عن هذه الشخصية الرائعة ، منها ما كتبه الأستاذ ثابت الأحمدي في العدد(17) من صحيفة ريمة الصادر في يناير 2005م بعنوان (محمود الجباري .. أديب الفقها وفقيه الأدباء ) وما كتبه الأخ علي محمود يامن في موقع اليقين في 7فبراير 2015م وما كتبه محمد الجباري نفسه من السيرة الذاتية ، تحت عنوان (محمود الجباري سيرة آباء ومسيرة عطاء ). وما كتبه الدكتور عبد الحفيظ النهاري في صحبفة الثورة .
ماذا سأقول عن هذه الشخصية ، فالعبارات تبدو عاجزة عن وصفه وإنصافة وإعطائه حقه ، ولن يستطيع تعبيري المتواضع أن يرقى الى تعبير من سبقني من المتخصصين في ميدان الأدب. وسأكتفي بابراز أهميته من خلال عرض فقرات من شهادات كبار المختصين والمحبين.
فأين انا من الدكتور عبد العزيز المقالح الذي فوجئ بهذا الشاعر وقال في مقدمته متسائلا: " كيف تجاهلته الدراسات والأبحاث الأدبية التي ظهرت عن الشعر المعاصر في اليمن؟، وكيف لم يأخذ هذا الشاعر المبدع ما يستحقه من المكانة والإشادة؟" معتبراً إياه من أبرز شعراء خمسينيات وستينيات القرن الماضي، مضيفاً "ولعل ما يبعث على الأسى والحيرة أن هذا الشاعر قد تمكّن في أن يخفي نفسه كمبدع كبير وأن يبقى شعره في الظل بعيداً عن أعين القراء والدارسين، وأن الزهد في الشهرة قد بلغ به إلى هذه الدرجة من التواضع وإهمال الموهبة ونكران الذات، في حين أنه بلا مبالغة واحد من ألمع شعراء هذا الوطن المبدعين المجيدين".. ويستطرد الدكتور في إماطة اللثام عن حقيقة جليّة تعكس سمو ورفعة موضوعات الشاعر الجباري بقوله "كما لم يكن ما يكتبه الأستاذ الجبّاري من شعر حاملاً للقضايا الوطنية والإنسانية فحسب بل كان شعراً ينبئ عن موهبة عالية تعبر عما كانت القصيدة العمودية المعاصرة قد وصلت إليه فنياً وتجديداً موضوعياً ولغوياً". ""لقد كان الجبّاري- رحمه الله- شاعراً عربياً بكل ما للكلمة من معنى" .
هذه مقاطع من دراسة نقدية منصفة للدكتور المقالح حول شعر الجباري وهو المتخصص في هذا الميدان . وماعساني أقول أكثر مما قاله البرفسور عبد الملك منصور المصعبي حيث يقول "وجدت نفسي أمام فارس امتلك ناصية البلاغة واقتدر". وهو ما يصف الشاعر نفسه...."ليست هذه الأعمال الشعرية إلا أنغام يؤديها الشعر عبر ألحانه في محراب الفضيلة التي هي وحدها القادرة على تحصين الإنسان من الزلل والكفيلة بشفاء الكبد الحرّى وتغسل صدر المشتاق إلى إنسانية الإنسان.).
وأين انا مما قاله الأستاذ الأديب الدكتور عبد الولي الشميري،الذي يتفق مع الدكتور المقالح حول السمة الأبرز لروح التواضع الذي تحلّى بها الشاعر الجباري، قائلاً:"ويبدو أن هذا التواضع كان قد أصبح طبيعة متأصلة في شاعرنا، وأن الزهد عن مطامع الحياة كان قد صار أيضاً جزءاً من التزاماته الأخلاقية التي نشأ عليها وتنامت عبر سنوات العمر" ثم ويصف شعر الجباري بقوله :"وكم كانت قصائده الساحرة رقة وجمالاً، الفاتنة جزالة ولفظاً ومعنى، تولد بين يدي وكأنها سيب العارض الهتن، ساحاً غدقاً، ومع ذلك يحاول التقليل من جمالها وفتنتها، ويعدني بسواها". ويقف عند الصدق الفني والقدرة الإبداعية للشاعر بقوله "فإن لكل قافية أو بحر، أو وتر أو موسيقى في قواعد الشعر الفصيح مكاناً بارزاً في هذا الديوان، دون تصنع من الشاعر، ودون استئذان من محسنات البديع".
اما المفكر المبدع الأديب الأستاذ ثابت الأحمدي فقد عبر عن خلجات انفسنا في مطلع ترجمته لشاعرنا في صحيفة ريمة حيث يقول"من أنت حتى تكتب عن محمود الجباري؟!! من أنت أيها الغِر الدَّعي الذي لا تزال صبياً تتهجى أبجديات الأدب ولما تستكنه أغواره؟!! لا بأس.. ما على المصباح أن يتألق بنور غيره ما دام فيه زيته، وما على الظمآن الا أن يقصد النهر ولو لم تكن فيه حاجته، وما على السبّاح أيضاً أن يطلب الدُرّ ولمّا يعرف الغوص.. عموماً.. دعنا نتفيأ رحاب آدابه، ونقتطف ثمار علومه نجتني شهداً معتّقاً عصرته أمزان الفكر، دون الوصول إلى مهجة القلب."
ونختم بما قاله الأخ العزيز علي محمود يامن في مقدمة مقاله الذي تضمن تلك الإقتباسات السابقة الرائعة فقد قال " يتهيب القلم مهما بلغ احترافه أن يكتب عن العظماء، لكنه يستطيع أن يكون ناقلاً أميناً وصياداً ماهراً لبعض ما سُطّر عن الشاعر والأديب الفقيه المفكر الأستاذ/ محمود حسن الجباري، أحد رموز الحركة الوطنية الإسلامية الأوائل ومفكريها الأفذاذ الآتي من مروج ريمة الخضراء، والحاضر في أواسط القرن الماضي."
- . الإســم الكامل: محمود حسن محمد أحمد محسن علي الجباري تاريخ الميــلاد : ( 1338هـ الموافق 1920م )، وتـاريخ الوفــاة: ( 1413هـ الموافق 1993م ). ولد في قرية (الأَكَمَة) من عزلة (بني الضُبَيبي) في مديرية (الجبـين) -محافظة ريمة. بدأ سيرة حياته من بلدته الريفية، وعاش فيها مراحل طفولته وشبابه إلى أن تزوج، ثم بقى فيها مُـدة قبل أن ينتقل للسكن في مدينة صنعاء. وفي صنعاء أكمل مسيرة عطائه إلى أن مات ودفن فيها عام1993 . كان شاعرا وأديبا، معلما وفقيها، كاتبا ومؤلفا، إداريا ناجحا، ومناضلا كبيرا. نشأ في بيت علم وأدب، وعاش في كنفهما وظلهما حتى بلوغه. أول ما نشأ وتربى كان في حجر والديه وبرعاية أسرته الكريمة وبين أهله ومحبيه ينهل من فيض مشاعرهم وعلومهم الغزيرة. وعلى يد أمه وجدته تلقى مبادئ القراءة والكتابة، ودرس القرآن الكريم. فقد كانت أمه وأخواتها وجدته يحفظن القرآن الكريم ويجدن علوم الفقه والدين. ثم أكمل قراءة وحفظ القرآن الكريم على أجداده الفقهاء في القرية.وفي شبابه.. لازم جده القاضي والشاعر(أحمد الصغير بن أحمد محسن علي الجباري) فدرس عليه علوم الدين وأحكام الشريعة، وسمع منه الشعر والنظم ومبادئهما حتى ظهرت نجابته عنده. كما قرأ كتب ومؤلفات أجداده ونهل من علومهم وأشعارهم ما مكنه من صقل موهبته الأدبية.
بعد ذلك انتقل إلى مدينة (المراوعة) في محافظة الحديدة، والتحق بجامعتها العلمية آنذاك. فدرس على غير واحد من فقهائها وعلمائها أبرزهم العلامة السيد(عبد الرحمن محمد الأهدل)، والفقيه (أحمد ميقري) وغيرهما، وبقى فيها سنتين حتى أجاد علوم الفقه، الحديث، واللغة العربية، ثم عاد إلى بلدته شيخ علم في سن الشباب، وكان أبواه قد توفيا، فتحمل مسئولية أسرته، وكفالة إخوته فقد كان أكبرهم، وعمل في بلده في بعض الأعمال الكتابية، وفي مجال القضاء" جابياً" وفي هذه الأثناء كان يتابع نشاط الثوار الدستوريين فاتصل ببعض الثوار المناهضين لحكم الإمامة الملكي. ومن هنا تفتحت قريحته الشعرية فبدأ بنظم القصائد الثورية فكتب قصائد عديدة ندد فيها بالظلم والإمامة اليحيوية آنذاك، ووصلت بعض تلك القصائد إلى الإمام (يحيى بن محمد حميد الدين) فأمر الإمام عامله على بلاد ريمة آنذاك الأمير (يحيى محمد عباس) بحبس صاحب الترجمة سنة 1367هـ/1947م، ومصادرة متاعه بما في ذلك أوراقه وقصائده الثورية، خصوصاً وقد كان متأهباً للسفر-قبل القبض عليه وحبسه-للإلتحاق بحزب الأحرار الذي أسسه الزبيري في عدن، ولم يخرج من سجنه إلا بعد عام كامل سنة 1948م بعد مقتل الإمام يحيى، عقب فشل الثورة الدستورية. وكان قد وصفة الأمير لدى الإمام يحيى بانه «زبيري ريمة .
استقر بعد خروجه من السجن في بلدته الأكمـة، وعمل كاتباً، ثم سكرتيراً لدى عامل بلاد (ريمة) المذكور. ثم سافر إلى مدينة تعز، ومكث فيها ثلاث سنوات، اتصل فيها ببعض القضاة وكُتاب المقام الإمامي، وتدارس معهم في قضايا الفكر والأدب والسياسة،وكان في هذه الفترة صديقاً عزيزاً للقاضي العلامة/ يحيى بن احمد السياغي. فكان يساجله الشعر ويطارحه الأدب حتى أُعدم إثر انقلاب 1955م فرثاه بقصيدة شعرية طويلة. ثم عاد إلى بلده، ومكث فيها حتى قامت الثورة الجمهورية التي أطاحت بالنظام الإمامي سنة 1382هـ/1962م، وبعد قيام الثورة عاد للعمل بصحبة (محمد هاشم عبادي) شيخ مشايخ مـاوية الذي عُيّن أول عامل لريمـة بعد الثورة، ومع قائد المنطقة ( أحمد محمد الأكوع ) والذَين عَمِلا مع وجهاء ريمة على تجنيد أربعة آلاف جندي من أبناء ريمة لصالح الحرس الوطني رَأَسَهم محمود الجباري ، ونزل بهم الجباري– يرافقه أخوه (محمد حسن الجباري) إلى مدينة الحديدة، وانضموا جميعاً تحت قيادة العميد (محمد الرعيني) كمدافعين عن الثورة والجمهورية. بعد ذلك.. عينه رئيس الجمهورية المشير(عبد الله السلال) مديراً للإرشاد الديني في قضاء «ريمـة» فمكث قائماً على ذلك مدّة، ثم انتقل إلى مدينة صنعاء، فعمل مع الأستاذ(طه مصطفى) في المكتب التنفيذي في القصر الجمهوري، كما عمل في مكتب رئيس الوزراء، ثم انقطع عن العمل الحكومي مدة، وفي سنة 1392هـ/1972م عاد للعمل الحكومي في مكتب شئون المحافظات برئاسة الوزراء ومديراً للموظفين بوزارة شئون المحافظات والنواحي (الإدارة المحلية)، وهنا طوى صفحة من صفحات سيرته الخالدة ومسيرة نضاله وعطائه في مجال السياسة والإدارة.
- وما إن تأسست المعاهد العلمية في منتصف السبعينات، وبدأت تنمو وتتكاثر في إنحاء البلاد حتى انتقل للعمل في مكتب رئاسة المعاهد العلمية الذي كان يرأسه القاضي/ يحيى بن لطف الفسيل. وهنا بدأ مرحلة ثانية من سيرة حياته الشعرية ومسيرة عطائه العلمية. إذ بدأ صوته الشعري يتجدد، وإبداعه الأدبي يتدفق مرة أخرى بعد انشغال طويل في مجال الإدارة والسياسة..وطالما ترددت قصائده الشعرية خاصة الغنائية منها كأناشيد رنَّانة لدى طلاب المعاهد العلمية. واستمر في رئاسة المعاهد حتى أواخر الثمانينات، ثم تقـاعد عن العمــل ليطوي صفحة أخرى من سيرته النيّرة ومسيرته النضالية.
وفاته
- وفي العشر الأول من شهر رمضان عام1413هـ الموافق 1993م.. كان محمود الجباري على موعد مع ربه، وضيفاً على حبيبه المصطفى محمد (صلى الله عليه وسلم ) بعد أن ناجاهما بآخر روائعه الشعرية وهي ((نسمة الوصول في مدح الرسول)) التي انتهى من نظمها وتهذيبها قبل مماته بعشــرون يوماً فقط، لتكون مسك الختام لمسيرة عطائه، وتحية السلام عند لقاء ربه ، ووصله بشفيعه وحبيبه محمد سيد الأنام..
- مات -يرحمه الله- وله ثلاثة أولاد.. أكبرهم العزي/ محمد محمود، وأصغرهم المقدم ركن/ عبدالحميد محمود وبينهم أختهم الوحيدة. .
- كان -يرحمه الله- على صلة بعبادة الله، محافظاً على الصـلاة ، متعهداً لكتاب الله وتالياً لآياته، عارفاً لسنة رسول الله، زاهداً في الدنيا ومتاعها، وقائماً بالحقوق ومؤدياً للواجبات. وكان رجـلاً وقوراً، عفيفاً كريماً، مبتعداً عن أضواء الشهرة، حسن الأخلاق، لطيف السجايا، حاضر النكتة، سريع البديهة.المرجع : محمد ابو أشرف الجياري
ثالثا نماذج من شعره
تكلمنا سابقا عن أهمية هذا الشاعر بشهادات أعلام الأدب وأعمدته ومنهم الدكتور عبد العزيز المقالح ، والدكتور عبد الملك منصور ، والاستاذ ثابت الأحمدي وعبد الولي الشميري والأخ علي محمود يامن وغيرهم ، وفي الحلقة الثانية استعرضنا حياته وملخص سيرته الشخصية بما حوته من نضال وعصامية ومحطات هامة من تأريخنا المعاصر ، وأوعدنا القراء الى اليوم بقصيدة عن ريمة ضمن قصائده الجميلة ، ولكن للأسف لم أعثر على النسخة التي كنت محتفظا بها من عشرات السنين ، ولم أعد أحفظ في ذاكرتي منها الا ابياتا معدودة فأوردت هذه الأبيات من الذاكرة للدلالة أنه قد حفر في ذاكرتنا الكثير من الأشعار التي لا نستطيع نسيانها ، كما اوردت مقطوعتين من قصيدة أخرى بعنوان حتى مطلع الفجر ، ولم يسع المقام لايرادها كاملة ، رغم أهميتها، فاكتفيت بالمقطع الأول والأخير.
عش مدى الدهر
عش مدى الدهر يا موطني الأخضر وليعد بالهناء عهدك الموفور
للمعالي ترى في الجبي مأثر في سجلات تأريخها مسطور
بن سهل المغارم غنى مسور وغنى الجعفرية غنى الجمهور
بن حورة وبستانها متور ملكنا مثلما ملكنا عنتور
في بني واقد الزنجبيل أخضر والجنا في نواحي خضم موفور
يا أخي أيها الحر في المهجر موطنك كان في ما مضى مهجور
قم نشيد الذرى نرفع المنظر نشعل الكهرباء فوق هذا الطور
نعمر المدرسة لابنك الأصغر والمصحات للعاجز المصدور
والمخرب بلا شك لا يظفر عيب يبقى ابن ريمة غبي مدحور
قصيدة أخرى بعنوان (حتى مطلع الفجر)
ومضة سبحت لها الأيام واستضاءت بشمسها الأعوام
ومضة من مشارف الغار لاحت والأباطيل حوله والظلام
شهدتها عينا سراقة لما أجفلت في فؤاده الأوهــام
إذ تردى جواده وتهاوى سيفه عندها وطاش السهام
واستهال الزمان ميلاد تاريخ (جلاميد ؟) تهادى به الأسلام
رسمت للقرون في صدر فجرا تحيي شعاعه الأحلام
أي يوم فيه انحنى الشرك ذلا فاشمأزت ببكة الأصنام
وتبارت مواكب النور فيه زاحفات ورفت الأعلام
أي فجر أطل والأرض حيرى وعليها من الضلال ركام
أظلام والغار يحتضن النور وفي بابه تبيض الحمام
في زواياه أحمد يرسم الخطو وبالكفر تهمس الأقدام
وجفون القرون تستقبل الشمس وفي مقلة الضلال الرغام
أنه البدء فاطمئن ابو بكر فلن يحجب الضياء قتام
ويقول في المقطع الأخير من القصيدة
يا نبي الهدى أعد فجرك الزاهي ليرتاد ظله الحكام
وتذوب المهازل السود في عين العدو اللدود والأثام
قل لامجادنا بيثرب عودي ليسود الإيمان والإقدام
ليعيد التأريخ عزمة سعد ويقود الرعيل منا كرام
لنرى سيف خالد يفتدي القدس أبيا وتصمت الألغام
يوم بدر ما غاب عنا ولكن غثاءا زاغت بنا الأفهام
ودرى المعتدون من اين نؤتى فغزونا بنا وطال الخصام
جمع الله شملنا فافترقنا وجثمنا على الجليد فقاموا
بقلم المؤرخ الدكتور حيدر علي ناجي العزي
************
الشاعر الجبّاري.. قامة أدبية سامقة
الشاعر محمود الجباري
مقال : علي محمود يامن
يتهيب القلم مهما بلغ احترافه أن يكتب عن العظماء، لكنه يستطيع أن يكون ناقلاً أميناً وصياداً ماهراً لبعض ما سُطّر عن الشاعر والأديب الفقيه المفكر الأستاذ/ محمود حسن الجباري، أحد رموز الحركة الوطنية الإسلامية الأوائل ومفكريها الأفذاذ الآتي من مروج ريمة الخضراء، والحاضر في أواسط القرن الماضي. وهنا ليسمح لي القارئ الكريم أن نرتشف سوياً قطرات مزن عذبة رقراقة عن شاعرنا الجبّاري منثورة على لسان ثلاثة أعلام شامخة في ميدان الفكر والأدب والثقافة والإبداع.. مورداً دررهم بين هلالين، مقتصراً على الربط المنطقي للسياق، لنطلّ من مرصد ثاقب ورؤية منصفة على بعض من جوانب شخصية الدراسة..
في مقدمة رائعة ومنصفة لشاعر الجزيرة وأديب العرب وفيلسوف النضال الإنساني، الدكتور/عبد العزيز المقالح يقرّ بمفاجأته الكبرى وهو يتصفح قصائد ديوان الجباري، متسائلاً "كيف تجاهلته الدراسات والأبحاث الأدبية التي ظهرت عن الشعر المعاصر في اليمن؟، وكيف لم يأخذ هذا الشاعر المبدع ما يستحقه من المكانة والإشادة؟" معتبراً إياه من أبرز شعراء خمسينيات وستينيات القرن الماضي، مضيفاً "ولعل ما يبعث على الأسى والحيرة أن هذا الشاعر قد تمكّن في أن يخفي نفسه كمبدع كبير وأن يبقى شعره في الظل بعيداً عن أعين القراء والدارسين، وأن الزهد في الشهرة قد بلغ به إلى هذه الدرجة من التواضع وإهمال الموهبة ونكران الذات، في حين أنه بلا مبالغة واحد من ألمع شعراء هذا الوطن المبدعين المجيدين".. ويستطرد الدكتور في إماطة اللثام عن حقيقة جليّة تعكس سمو ورفعة موضوعات الشاعر الجباري بقوله "كما لم يكن ما يكتبه الأستاذ الجبّاري من شعر حاملاً للقضايا الوطنية والإنسانية فحسب بل كان شعراً ينبئ عن موهبة عالية تعبر عما كانت القصيدة العمودية المعاصرة قد وصلت إليه فنياً وتجديداً موضوعياً ولغوياً).
هذا هو الجبّاري الإنسان، الذي زهد فيما يتسابق عليه جل أهل صنعته ورواد موهبته، وما الشعر إلا قلم مبدع ونص مبدع وجمهور متذوق.. وأعلى درجات نكران الذات هو التواري عن اقتدار..
جل ثروة الشاعر الأدبية هي تراتيل وصلوات في محراب الوطن؛ فهو القائل:
لقد وجدت يراعي في سوى وطني
قزماً كسيراً كليلَ الطرف كسلانا
ذكرته وطني فافترَّ مبتسماً
وانقاد لي طيّعاً سراً وإعلانا
وقد وجدت شعوري راقصاً طرباً
يسيل شعراً ولم أعهده نشوانا
ويؤكد المقالح أن"الشعر في مفهوم الجباري، تعبير وجداني عن أنبل الغايات وأسماها، وانعكاس إبداعي عن الهم الوطني) فيشدو الجباري:
إليك يا وطني شعري لتصهره
مجداً وتشربه حباً وإيمانا
وهاكه قلقاً إن شئت أو أرقاً
ينساب في أعين الغافين أحيانا
إليكه لعناتٍ منك صارخة
بالظالمين وبعض الشعر إيذانا
ويضيف المقالح:
"لقد كان الجبّاري- رحمه الله- شاعراً عربياً بكل ما للكلمة من معنى"
ويتناول المفكر العربي والمثقف الموسوعي الدكتور/عبد الملك منصور نموذج الإنسان في شعر الجباري معترفاً له بالفروسية الأدبية؛ حيث يقول منصور "وجدت نفسي أمام فارس امتلك ناصية البلاغة واقتدر". وهو ما يصف الشاعر نفسه شدواً:
صدَّاح يا شاعراً غنى بألحاني
أنغام حبي وأشواقي وأشجاني
بالله هل صغت شعراً في فواصله
قلبٌ تقطّع أم لحّنت أوزاني؟
تنوح شأن الذي أضحى أسير هوى
وفيمَ تشدو ولست الوالهَ العاني؟!
"ليست هذه الأعمال الشعرية إلا أنغام يؤديها الشعر عبر ألحانه في محراب الفضيلة التي هي وحدها القادرة على تحصين الإنسان من الزلل والكفيلة بشفاء الكبد الحرّى وتغسل صدر المشتاق إلى إنسانية الإنسان.) وهو يصف تقريضاً الشاعر الإنسان:
وما الشاعر الموهوب إلا انبثاقةٌ
سماويةٌ والشعر ما اهتز سامعه
إذا ما بكى أبكى وإن ناح أو شدا
أطارت بحبات القلوب سواجعه
يعير جبان القوم عزماً لدى الوغى
ويجبن إن هاجت قوافيه دارعه
"يعتنق هنا الشاعر رسالة الذود عن الإنسان بسلاح الكلمة، وفي كل هذا لا تطيش مداركه، بل يجمعها ليرصد للقارئ ازدواجية مرة تقوم عليها علاقة الإنسان). ويردف مسترسلاً:
"ولأن التاريخ لا يكذب، فإن شاعرنا يغرينا بدقة التاريخ ويقظته وسموه، متمنياً أن يكون هو التاريخ سعةً وشموخاً وحصانة، وهي معانٍ يوقن الشاعر أنها قرينة بالتاريخ، وهي السبيل إلى تحقيق إنسانية الإنسان" ويخاطب الشباب مستحضراً أمجادهم الغابرة:
طلائع الغد من أبناء حنظلة
وذي "رعين" و"أنمار" و"ذي جدن"
أحلامنا شاخصات صوب كل فتىً
يقتادها راسخ الأقدام في سنن
يبني الحياة بلا زيغٍ ولا ضعةٍ
وليس غير الشباب المؤمن الفطن
"هذا هو الأستاذ/ محمود الجبّاري، شاعراً تواقاً إلى إنسانية رفيعة. أما الجبّاري إنساناً فهو في طليعة أولئك القلائل الذين قالوا لبريق المغريات (لا) عن اقتدار.. التحم بالأرض معتبراً ذلك مجداً ونعم المجد)، كيف لا وهو المغرد:
ما الشعر مهما سما نظماً سوى كلمٍ
صيغت إذا لم تكن للنبل برهانا
والفضل والنبل والعليا مجملها
لفظٌ إذا لم تكن للمرء تيجانا
والشعر إن لم يكن أوضاعه صنعت
للمجد كان تفاعيلاً وأوزاناً
ويصف سمو نفس الأديب وزهده عمى في يد الناس وجراب الحكام:
"وثمة ميزة تحلى بها ألا وهي مقاطعته ونسيانه بلاط الحكام، والذي عادة ما يضفي على الشاعر لمعاناً زئبقياً ربأ الجبّاري بنفسه عنها، وظل يتلمس قداسة القيم الإنسانية ومواطئها ومواطنها) فالجبّاري متعلق برب السموات والأرض فيتضرع في ملكوت الخالق:
يا رب هب لِيَ نفساً تطمئن إلى
رضاك أنجو بها من لفحةِ الحطم
ورحمة الله أرجو وهي واسعةٌ
ولن تضيق بقلبٍ ضارٍع عَتِمِ
ولن تضيق بمن أَمّوا مناهلها
وحبلهم بعُراها غير منفصم
في تسابيح إبداعية في محراب محمود يرتل رائد الإبداع وعاشق الحرف وساقي بذور التميز، الأديب الشاعر الدكتور عبدالولي الشميري، متفقاً مع الدكتور المقالح حول السمة الأبرز لروح التواضع الذي تحلّى بها الشاعر الجباري، قائلاً:
"ويبدو أن هذا التواضع كان قد أصبح طبيعة متأصلة في شاعرنا، وأن الزهد عن مطامع الحياة كان قد صار أيضاً جزءاً من التزاماته الأخلاقية التي نشأ عليها وتنامت عبر سنوات العمر" ويصف لآلئ الجباري:
"وكم كانت قصائده الساحرة رقة وجمالاً، الفاتنة جزالة ولفظاً ومعنى، تولد بين يدي وكأنها سيب العارض الهتن، ساحاً غدقاً، ومع ذلك يحاول التقليل من جمالها وفتنتها، ويعدني بسواها". ويقف عند الصدق الفني والقدرة الإبداعية للشاعر بقوله "فإن لكل قافية أو بحر، أو وتر أو موسيقى في قواعد الشعر الفصيح مكاناً بارزاً في هذا الديوان، دون تصنع من الشاعر، ودون استئذان من محسنات البديع".
وأنا أختتم سطور هذه الإطلالة هل لي أن أعتذر للقارئ الكريم لأني خالفت المألوف وقفزت على المعتاد في تناول السير التي تبدأ عادة بالنشآت والتكوين مروراً بالمحطات الهامة والمحورية، ونقلاً للخارطة الزمنية للأحداث والمواقف، وكذا أطمع أن يعذرني من نقلت عنهم ثلاثي الأدب والثقافة والإبداع هذه المخالفة كضرورةً حتمية اقتضتها فضيلة الفيض البلاغي والورع الروحي لدى رائد القوافي وسلطان ناصية الشعر الأستاذ محمود الجبّاري كون مباشرة تناول سيرته وأدبه ونضاله من كاتب مغمور مثلي هي جناية لا تغتفر بحق الراحل العظيم، وغبن في حق القارئ الكريم أن يتلقى الشمس من شاقوص ضيق، وليتسنى لي تناول الأبعاد المتعددة والإشراقات المتتالية لشخصية الجبّاري كمناضل صلب وأديب مبدع وفقيه أريب ومؤرخ ناقد على أرضية صلبة شيّد مداميكها فرسان الكلمة وملوك الحرف ورواد الإبداع في يمن العلم والأدب والحضارة والتاريخ.
#شخصية_من_ريمه
اليكم صفحة تهتم بالشاعر واعماله : هنا
رابط المنشور على صفحة شخصية من ريمه على فيسبوك هنا